الحديث عن المجتمع المدني في المغرب هو بالضرورة حديث عن الأزمة، أزمة المفهوم و أزمة الممارسة، وهذا المعطى لا يستقيم إلا إذا حددنا طبيعة هذه الأزمة على المستوى النظري والعملي، فنعرض في المرحلة الأولى للمفهوم من حيث مضامينه، وسياقه التاريخي، ونعرج في مرحلة ثانية على التجربة التاريخية المغربية و كيفية تعاملها مع المجتمع المدني وطبيعة توظيفها لمضمونه .
إشكالية المفهوم و الوظيفة
إذا كانت الخاصية المميزة للمعرفة عموماً محكومة بتجديد مفاهيمها وبناء معجمها الخاص من خلال وجود آلية وطريقة واضحة في بنية المفهوم وتنظيم الميدان المعرفي في موضوعه وتخصصه و أفقه، فإن مفهوم المجتمع المدني لا زال أسير مشكلة المعنى بتعبير فيبر لتباين منطلقه المرجعي ـ الوظيفة ـ وأشكال فهمه و ممارسته ـ التوظيف ـ .
بداية نميز في التعاريف التي أعطيت للمجتمع المدني بين مستويات عدة .
فالمستوى الأول يحصره في الفعالية التي تشجعها الممارسات التعاونية والتشاورية التي هي الجوهر المشترك للعديد من أفكار المجتمع المدني (1)
و المستوى الثاني يحده في مجموع المؤسسات المدنية والاجتماعية ومن ثم القنوات التي يتم فيها للمجتمع الحديث التعبير عن رغباته والدفاع عن نفسه في وجه ما يعرف عند هوبز " اللوفيتان "(2)
أما المستوى الثالث فقد تعاطى فيه أصحابه مع هذا المفهوم بنوع من الاحتراس مخافة التنميط وغياب الدلالة الشافية والجامعة المانعة؛ فعده كريشان كومار(3) مفهوماً فضفاضاً يميل ليعني كل الأشياء وكل الأشخاص . ويؤكد أن الشعبية المتنامية لهذا المصطلح تزيد من تراكم الالتباسات الموروثة عنه وتخلق قلقاً وتناقضات صريحة حوله، ذلك أن الكتابات عنه كانت احتفالية بدل أن تكون نقدية، وحسبه محمد أحمد بنيس (4) مفهوماً إجرائياً يساعد على اجتراح قراءات جديدة لطبيعة الحراك الاجتماعي بعد أن حالت البلبلة الإيديولوجية دون التعامل العلمي معه، في وقت عد هذا المجتمع ممارسة يومية وخياراً اجتماعياً ورهاناً سياسياً ضد الدولة الشمولية الراعية والموجهة لفعاليات البشر، كما يعني أيضا دور القطاع الخاص المنظم والقوي بوصفه حامياً فعلياً لهذا المجتمع الذي يشكل دوراً حاسماً و أساساً (5).
وفي السياق نفسه يورد الدارس ثلاثة تعاريف تخص السوسيولوجيا السياسية وتعني به مجموع المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات و المنافع العامة دون تدخل أو توسط الحكومة (6)
أما التعريف الثاني فهو للندوة التي عقدت ببيروت سنة 1992 التي اقترحت التالي:" المجتمع المدني المقصود في هذه الندوة هو مجموع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدول لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى القومي ومثال ذالك الأحزاب السياسية ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، ومنها أغراض مهنية كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة والدفاع عن مصالح أعضائها ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب و المثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية وبالتالي يمكن القول إن الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي: الأحزاب السياسية، النقابات المهنية، النقابات العمالية، الجمعيات الاجتماعية و الثقافية "(7).
أما الأستاذ حميد العموري(8) فيورد تعريفاً آخر ويعني به مجموع التنظيمات التي تناضل من أجل تعميق وتوطيد المسار الديمقراطي وتفعيل مقتضياته وجعله اختياراً استراتيجياً.
لقد نحت التعاريف المساقة أعلاه نحو تحديد المضامين عوض التعاريف، وركزت على البعد المؤسساتي والعملي وتجاهلت السياق الفلسفي والمعرفي، لذلك جاءت قاصرة عن توضيح هذه الأبعاد في مفهوم ، إذ هو تصور وفعل قيمي يرنو إلى تفعيل المضامين والأساليب الديمقراطية بوساطة آليات تفتقر لسلطة الإكراه المادي وتسعى إلى إفراغ السلطة من محتواها السلطوي لصالح القيم التشاركية انطلاقاً من بعد كوني لا يركن إلى جغرافيا أو دين أو قبيلة أو وهم يدعي التفوق مهما كانت طبيعته .
إن مسعى التحديد المفاهيمي قد يستنير إذا آزره بعد تاريخي حاول رصد ملامحه وخصائصه و سياقات تشكله على مستوى التطور الحضاري العام .
ففي تصور هيغل ينصب موضوع المجتمع المدني على المجال المعرفي أو الميدان الذي يتناول المؤسسات و الممارسات التي تقع بين مجال الأسرة و الدولة (9) ، و تكمن و ظيفتها الأساس في الإنتاج و تبادل الخيرات و المنافع في أفق تحقيق الحاجات الضرورية ، غير أن هيغل يقف موقفاً حذراً من هذا المجتمع على اعتبار أنه قاصر بحكم طبيعته المتميزة على الخصوص بتباين مكوناته في الرؤى و الغايات وتناقضها في المصالح، ليرتد هذا التباين إلى استحالة الوصول إلى استقرار سياسي كفيل بتحقيق التقدم و التطور(10)
لقد كان هيغل واقعياً أكثر من اللازم في تعريفه هذا حين استبعد وجود مؤسسة غير الدولة بإمكانها تحقيق التقدم والتطور لألمانيا انسجاماً مع ما كان في فرنسا و انجلترا، وعلى النهج نفسه سار ماركس حيث لم يستطع الانفكاك من الهيغيلية إلا بعد كتاب رأس المال، وفيه ميز بين البنية التحتية والبنية الفوقية، ورتب المجتمع المدني ضمن البنية الأولى لأنه يمثل القاعدة المادية، وطبيعي أن يكون دوره حاسماً حسب التفكير الماركسي في تحديد طبيعة وشكل البنية الفوقية، هذا فضلاً على أنه يمثل أحد أهم مستويات وتمظهرات الصراع الطبقي بحكم التناقضات التي تطاله (11).
أما غرامشي فيعد من أوائل المفكرين الذين منحوا المجتمع المدني مكانة خاصة تكمن في انفصاله عن الجهاز القهري للدولة وعن المؤسسات الاقتصادية للمجتمع، حيث إن ميدانه هو الذي يتم فيه دعم و منازعة فرص الهيمنة عن المؤسسات الثقافية والأنشطة المجتمعية (12)، وتقوم استراتيجية هذا الجهاز على الهيمنة الإيديولوجية بواسطة المثقف العضوي أو الجمعي لإنتاج رأسمال رمزي مضاد يستعان فيه بمؤسسات الحزب والمدرسة والكنيسة والإعلام فيما يسميه غرامشي بحرب المواقع (13) ، ويتبدى أن غرامشي قد منح الايديولوجيا طابعاً فعالاً من خلال نقلها من البنية التحتية إلى البنية الفوقية رغبة في توفير فضاء أرحب وإخراج التصور الماركسي من الخطية المفرطة في أفق تقديم أفكار تنسجم و روح العصر، و اجتراح و سائل بإمكانها تقديم الحافز إلى نهضة جديدة .
هذا في الوقت الذي لم ينفصل فيه هابرماس عن هذا المسار إذ فصل بدوره الحقول الاجتماعية و الثقافية عن الحقول السياسية والاقتصادية ، فمن الناحية السياسية السلطة والإدارة لها منطقها الخاص و الاقتصاد له منطقه االخاص أيضاً .
أما المجتمع المدني فمطبوع بخاصية التضامن والتواصل الحر والمفتوح ويستثنى من عملية الفصل هاته السوق لأنه يعمل في ذلك شأن العمليات القهرية والبيروقراطية للدولة التي تعمل وفق مبدأ قد يهدد الكينونة الذاتية المستقلة للمجتمع المدني (14).
إن النقاش حول المجتمع المدني استناداً إلى هيغل وماركس وغرامشي وهابرماس يجد رافده المرجعي الأساس في الفكر السياسي الحديث في القرنين 17م و 18م خاصة في كتابات فلاسفة أمثال هوبز ولوك وسبينوزا ثم روسو، و تتأطر هذه الفترة ضمن مقولة أو نظرية التعاقد الاجتماعي التي ظهرت في إطار المجتمع البورجوازي الذي حل بعد انهيار المجتمع الإقطاعي، وقدم ليكون صيغة و أداة لهدم مقومات مجتمع القداسة ونظرية الحق الإلهي في السلطة وتكبيل وتقييد حرية الإنسان في ظل مجتمع تراتبي قوامه نبالة دم و "نجاسة" آخر، هذه النظرية أرخت لقطيعة سياسية وأفق فكري وثقافي يستمد مشروعيته من طبيعة القيم التي جاء بها وتتمثل في الآتي (15):
ـ قيمة الفرد و ما تعنيه من مضمون حقوقي وسياسي يكفل الحق في الحياة والفكر والملكية .
ـ قيمة المجتمع وتكمن في الالتزام بالمقتضيات الأخلاقية والقانونية الضرورية لتأسيس الجماعة .
ـ قيمة الدولة وسيادتها وهذا لايتأتى إلا إذا اعترف المجتمع بها وعد الحقوق الناتجة عنها مشروعة و مقبولة .
ولم يكن هذا المجتمع لينفصل عن النسق العام الذي تميز بظهور العديد من المفاهيم ذات الصلة وهي الدولة والأمة والمواطنة والديمقراطية والحرية وقيم التنوير والنزعات الدستورية والجمهورية والفرد و عدد آخر من مثيلات هذه الأفكار والخصائص، بصيغة أخرى إعادة بناء مجتمع على علاقة جديدة بين الشعب والسلطة بتنقية الفضاء الاجتماعي من العراقيل والعوائق التي تحول دون نهضته وتأهيله ليكون في مستوى ما كان ينادي به .
غير أن مسار تشكل هذا المفهوم والصيغ التي قدمت في شـأنه لا تجلو عنه بعضاً من الالتباس المتعلق بطبيعته، فالتوق إلى ترويجه واقتصار التحليلات على ذكر وتعداد الجوانب الإيجابية يوصف بالبحث عن مخلص من المجتمع السياسي وتقديم ذاته باعتباره بديلاً لهذا المجتمع بصيغة أقرب للتنحية والإقصاء . إن مثل هذا النزوع يكرس لأزمة المعنى وماهية هذا المجتمع ويحيل على طابع الغموض والهلامية، لأنه يفتقر إلى التعيين الطبقي (16) ، أي أن هذا المجتمع لن تحققه إلا "طبقة " مهيمنة أو تحالف طبقي مهيمن يجد في هذا المجتمع الفضاء الاجتماعي الذي يحقق سيطرتها الطبقية (17)، ومن هنا نشير إلى وجاهة تصور هيغل المشار إليه سابقاً من حيث طبيعة ومكونات هذا المجتمع وليس غاياته، لأن مكمن الخطر أن يضحى هذا المجتمع ميداناً يحتضن ما تبقى من موضوعات لم تحظ بأي اهتمام بمعنى أنه أصبح ميداناً مفيداً لبعض الأغراض المعيارية والبلاغية فحسب(18) أي غياب نسق فكري متكامل واضح و مشروع بيّن المعالم من شأنه أن يفضي إلى تبني تصورات انتقائية أو نفعية مبلقنة قد تزيد من الوضع الأداتي وتغرق في غياهب الفجائي والآني، ويزداد الأمر التباساً و تعقيداً حين يتم استحضار هذا المفهوم بإيجاد صور له خارج سياقه الحضاري (19) كالأوقاف و تنظيم الحرف فضلاً عن المدارس و المؤسسات الخيرية .
إن الموقف هنا لا يتعلق بأفضلية حضارة على أخرى ولكن السياق الابستمولوجي يفرض ذاته بحدة إذ إن الظاهرة السياسية العربية والميكانيزمات التي صاغت نموها وتشكلها تختلف جذرياً عن الظاهرة الليبرالية الأوربية، وأولى المفارقات في هذا الشأن مسألة القداسة، فالظاهرة العربية الإسلامية محكومة في ظاهرها وباطنها بالقداسة، والظاهرة الغربية الأوربية جاءت لرفض نظرية الحق الإلهي في السلطة وهذا مؤشر من بين مؤشرات عدة تجعل الحديث عن المجتمع المدني بمضمونه الليبرالي داخل التجربة والمجال الإسلامي مسألة محفوفة بالمخاطر والمنزلقات النظرية، وهذا لا يعني عدم وجود معالم هذا المجتمع داخل التجربة الإسلامية ولكن له شروطه الخاصة وروح عصره .
إضافة إلى خاصية أخرى وهي أن المجتمع المدني وفر الحوافز الحضارية في أوربا لميلاد الدولة، بالمقابل كانت الدولة وراء بروز المجتمع المدني في المجال الحضاري الإسلامي .
المجتمع المدني في المغرب و إشكالية التوظيف
لا يمكن الحديث عن المجتمع المدني في المغرب دون الحديث عن الدولة و طبيعتها السياسية و التاريخية وبمعنى أدق الحضارية، إذ لا ينفصل الأمر عن تحديد هذه الخاصية فبوساطتها قد يتأتى لنا معرفة أوجه العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني و بالمعنى الذي صيغت به هذه العلاقة .
تمتلك الدولة التي تشكلت في المجال الحضاري الإسلامي العديد من الخصائص التي تثير القلق المفاهيمي والمعرفي ومن ضمنها العلاقة مع المعارضة والفعاليات التي تمتح من معين يختلف ويخالف منطق الدولة، وعادة ما كانت تلجأ إلى ابتلاع أو تشويه أو تنحية هذا المكون الأساس مما جعل المجتمع هشاً أمام جبروتها بحكم امتدادها التاريخي العريق في تنحية المنافسين، و ظلت هذه الخاصية ملازمة للدولة التي سادت المجال الإسلامي إلى وقتنا الحاضر، و طبع مسيرتها " بتأبيد " الفشل في إرساء السبل الناجعة للتنمية وهو ما عاشته بشكل كبير دول ما بعد الاستقلال التي أرست معالم دولة وقعدت للمشاريع التنموية التي لم تكن في مستوى التطلعات .
و من أجل فك الارتباط بين الدولة اللاتنموية وضعف الفاعلين، تمت استعادة مفهوم المجتمع المدني و التركيز خصوصاً على حقوق الإنسان من خلال رد الاعتبار للإنسان بوصفه مواطناً، فكانت هذه القيمة الاعتبارية في الوقت ذاته تكريماً و اعترافاً بالمجتمع المدني أيضاً (20) ولن يأخذ هذا الاعتراف صفته " الحقوقية " إلا بالديموقراطية التي تعد مؤشراً دالاً على كيفية وجود المجتمع المدني (21) ، لأن تهميشه كان يعني غياب الشرعية التي يقوم عليها مشروع الدولة الحديثة ويدل في سياق آخر على تأجيل مسـألة التنمية التي تعني تحديث البنى والأنساق الاجتماعية والثقافية وفق أفق ينشد التغيير الاجتماعي ويتوسل بالمعرفة لبناء مستقبله الحضاري، و هنا تحضر سلطة المثقف الذي يتحلى بروح الاستقلالية والنزوع النقدي ويروم خدمة الفكر و الروح (22) ويتجاوز النظرة الواقعية وتصبح مهمته احتياجاً يسهم في اليقظة والسيطرة على صناعة المصير .
انطلاقا من كل ذلك نتساءل: بأي معنى ورد المجتمع المدني في التجربة التاريخية لمغرب ما بعد الاستقلال؟ و ما هي العلامات التي ميزته؟
بداية يمكن القول إن الدولة المغربية الحديثة لم تنفك من عقال التقليدانية، بل ظلت تتغذى على رصيد تاريخي مكثف تجلى في دولة المخزن و الدولة التي تتعالى على المجتمع و تتجاوزه تارة بمفهوم القبيلة والتي تمتد من التاريخ المرابطي ثم الموحدي فالمريني، وتارة أخرى بمفهوم الشرف انطلاقاً من الدولة السعدية وإلى الدولة العلوية، وهذا ما أفضى إلى غياب الاستمرار في بناء الدولة وتأسيس مشروعها المجتمعي الخاص القادر على تجاوز بنياته الارتكاسية وتطوير قدراتها ومفاهيمها ومضامينها لتتساوق مع منطق العصر، ويتمظهر هذا المأزق في تأجيل الانتقال الديموقراطي منذ ما بعد الاستقلال مروراً بما يسمى بالانتقال الديمقراطي في بداية السبعينات وصولاً إلى التناوب التوافقي، حيث لم يتم الفصل بين الدولة باعتبارها مجالاً للوحدة والسياسة باعتبارها حياضاً للتعدد والاختلاف (23)، و كثيراً ما كان النهج السلطوي يصر على فرض الاندماج وفق "أناه " وما عداه ليس إلا خارجاً عن الجماعة وعن الدين ذلك ما أجل فهم واستيعاب مضمون الحركات الاحتجاجية، وقد هذا التباين أعاد إلى الأذهان سؤالاً قديماً جديداً: من يؤسس من المجتمع أم الدولة ؟
فإذا كان من الثابت أن الغاية التي يرنو إليها النظام السياسي الإسلامي في تجربته التاريخية هو إنتاج الطاعة التي ارتقت إلى الواجب و بمفهوم أعمى لا يستحضر الإنسان إلا ليكون من الرعايا المطيعين بحقوق ضحلة وهزيلة على المستوى التاريخي طبعاً، فإنه بالمقابل أرسى دولة يطبعها الوجل بل و الرهاب من أي تحرك اجتماعي، وعلامات ذلك كثيرة في المغرب الحديث لعل أعنفها و أكثرها درامية أحداث 1981 الشهيرة بشهداء كوميرة .
لقد استطاعت السلطة السياسية المغربية أن تتسيد إنتاج المفاهيم السياسية والتنموية بحكم استنادها إلى قاعدة اجتماعية وثقافية عريضة تتمثل في الفئات المستفيدة بمخلف تلاوينها وأطيافها (24) وأن تحتكر كافة مصادر القوة والثروة والنفوذ وأن تسوق وتروج لخطابات تنتقص من الحركات الاجتماعية و السياسية وتجعلها خارج دائرة الاهتمام بل ومنبوذة في الواقع والمخيال الاجتماعيين (25) ، وما قد يفسر هذا المنحى في التعامل مع المجتمع عامة والمدني منه خاصة هو طبيعة المواقف والتي يمكن حصرها في ثلاثة (26):
ـ المواجهة؛ و يقصد بها الطابع الحدي في الصراع وتقوم فلسفته على النزعة الخطية في تفسير وتأويل القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وامتدت من بداية 1970 وإلى غاية أواسط 1980، على أن العلامة المميزة لهذا الأسلوب هي المنع والاعتقال والمصادرة والاغتيال والمحاكمات الصورية، بل وصلت إلى النفي ونزع الجنسية .
ـ المنافسة؛ ويقوم هذا الأسلوب على استنبات جمعيات تستمد قوتها من الدولة وترفع نفس القيم و المضامين التي نادى بها المجتمع المدني، قصد تحجيمه وتقزيمه وتلغيمه، والترويج في المقابل للخطاب الرسمي ولا أدل على ذالك من ظهور العديد من جمعيات السهول والهضاب إيليغ، أنكاد، أبي رقراق، الاسماعيلية الكبرى، الأطلس الكبير، رباط الفتح، دكالة، حوض سبو، الصويرة موغادور، فاس سايس، حوض آسفي، أحمد الحنصالي، تاونات الوردزاغ ، هذه الجمعيات أشرف عليها أعيان وعائلات مخزنية (27) ، الأمر نفسه ينطبق على الأحزاب السياسية حيث ظهر الأحرار المستقلون أي التجمع الوطني للأحرار فيما بعد ، ثم الحزب الوطني الديموقراطي ، والاتحاد الدستوري. ويتضح من هذا الأسلوب أن غايته هي المزاحمة المفضية إلى التدجين والاحتواء وتبديد الطاقة وتشتيت التركيز وامتصاص البريق و الوهج ، و ترسيم سيادة السلطة بغية تأبيدها .
ـ الاحتواء؛ و ينبني على توظيف بعض فعاليات المجتمع المدني في المشاريع التنموية وفي مؤسسات الدولة ولعل أبرز مثال على ذالك اللجنة الوطنية للتربية والتكوين والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1991.
إن المواقف المساقة أعلاه لا تعني الحسم في موقف الدولة من المجتمع المدني، إذ إن الأمر موكول إلى ثقافة التأثير والتأثر، فقد استطاعت الدولة أن تحسن من خطابها السياسي والحقوقي ومن ألفاظها المدنية، وأصبح بموجب ذلك تداول العديد من المصطلحات الدالة حقوقياً وتبنيها سواء في الاتفاقيات الدولية أو في الخطابات الرسمية الموقعة بين الدولة وفعاليات المجتمع المدني، فالأمر يرجع في النهاية إلى كيفية توظيف الخطاب الرمزي أو ما سماه غرامشي بحرب المواقع عوض حرب الحركة التي تميز بها الأسلوبان السابقان، ولا أدل على ذلك من اقتحام بعض الفعاليات المدنية لمجالات كانت إلى وقت قريب حكراً على المخزن، و إن كان من تغيير فهو مرهون بمراحل وليس بلحظة حاسمة .
هذا القضية لا تندرج في القراءة المتأنية لأشكال تعاطي الدولة مع المجتمع المدني أو الأحزاب، إذ ظلت سياسة الدولة في ملامحها الكبرى وقسماتها أسيرة منطق تصور الدولة لعلاقتها بالمجتمع القائمة على الريبة و الاحتياط والتعامل الحذر، فالانفتاح لم يأت نتيجة الرغبة في التغيير وتطوير ثقافة المؤسسات و الرقي بالممارسة السياسية والمدنية، بل وسمه العجز عن إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل الاجتماعية المتراكمة منذ سياسة التقويم الهيكلي التي غذت بؤر التوتر الاجتماعي وأسهمت في تذكية الغضب الشعبي (28)، بالإضافة إلى أن هذا الانفتاح أملته الحاجة إلى إعادة بناء وهيكلة النظام والحقل السياسيين بتجديد المفاهيم والتصورات الخاصة بذلك سياسياً واجتماعياً (29) ، غير أن هذا السعي وهذه الرغبة يكشفان عن مجاهل تجأر بحقيقة في منتهى الأهمية تمني العين لكنها لا تطفئ عطشاً نوردها في المنزلقات التالية :
ـ منزلق الدولة ؛ معلوم أن الدولة تمتلك سلطة العنف المشروع والذي يتأتى بالثقافة الرسمية والإعلام الرسمي والدين الرسمي، وفي هذا المستوى يحتضر التنوع و الاختلاف وتضيع القيم وتصبح الحكومة و أي سلطة سياسية سيدة للمجتمع عوض أن تكون خادمة له (30)، من ذلك جر الثقافة إلى الإعلام بتبسيطها وتحويلها إلى إحدى الوسائل المكرسة لخدمة الإعلام الرسمي، والأدهى تحويلها إلى ثقافة استهلاكية هابطة تنحصر وظيفتها في الإمتاع والتسلية وتسطيح الوعي وتسويغ وتبرير العديد من المفاهيم خاصة الأمنية وتعميمها باعتبارها معايير وحيدة في المجتمع (31) ، ومن ذلك تواتر الاستثناء المغربي في الأمن وتغييب الأمن الروحي و الغذائي والنفسي والثقافي والبيئي(32) ، وحتى الفني الذي أضحى دوره تسويق خطاب الترقي الاجتماعي عن طريق الأسلوب النفعي والأداتي الذي يخلو من المضمون، والذي يغيب بشكل سافر إمكانية السمو بالمجتمع عن طريق الإسهام في اقتصاد المعرفة عبر غياب البرامج الثقافية التي تسهم في الذكاء الكوني، وإيجاد الحلول للمشاكل العالقة، كل ذلك بهدف إنتاج فرد خارج دوائر القلق المعرفي و الثقافي، وترسيم الأيقونات الغنائية والكروية بمختلف تلاوينها وتسييد خطاب العنف على حساب خطاب القضايا والرموز، قد يكون للأمر دلالة إذا صنف في إطار التطور خارج الأنماط المتعارف عليها، لكن المسألة خلاف ذلك إذ السعي حثيث لاستئصال الإنسان وتدجينه وتنويم وعيه و تثبيت المجتمع عند ساحل الحضارة عوض عمقها وتركيب الفرد على قالب الاستسلام والمصالحة عوض المشاكسة وطرح التصورات والبدائل في إطار الحرية المسؤولة، فكأن السلطة تصر على حقها الكامل في أن تقول للمجتمع أنا من يجب أن تصير أنت على صورتي .
ـ يتعلق المستوى الثاني بالأحزاب التي تسعى إلى استثمار مقولة المجتمع المدني في إطار سعيها لكسب الساحة النضالية على حساب الدولة فيما يمكن أن يسمى بالتوظيف المباشر والصيغة النفعية، وهذا المسعى يرجع إلى بدايات المجتمع المدني في المغرب الذي شكل ظهوره رافداً نضالياً للأحزاب حسب ما يظهر من تأسيس العصبة المغربية لحقوق الإنسان الموالية والتابعة لحزب الاستقلال، أو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان الموالية لحزب الاتحاد الاشتراكي، أو الجمعيات كجمعية الشعلة للتربية والثقافة التابعة للاتحاد الاشتراكي، أو جمعية الطلائع أطفال الغد الموالية لحزب التقدم والاشتراكية، أو جمعية التربية والتخييم التابعة لحزب الاستقلال، وحتى النقابات لم تسلم من هذا التوظيف كالكونفدرالية الديموقراطية للشغل التابعة للاتحاد الاشتراكي إلى حين تأسيس الفيدرالية الديموقراطية التابعة حالياً لهذا الحزب، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب الدرع النقابي التابع لحزب الاستقلال .
ويخص المستوى الثالث المجتمع المدني والإشكالات المرتبطة به، فعلى الرغم من المكتسبات التي حققها والأهداف التي يروم تحقيقها خاصة تحديث المؤسسات ودمقرطة النظام و تقنين العلاقات بين الدولة و المجتمع و اكتساح مجالات جديدة كانت محظورة (33) ، الأكثر من هذا تحقيق الاستقلالية عن الفاعلين السياسيين بتأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان في دجنبر 1988 ، و آخرها دسترة المجتمع المدني في دستور سنة 2011م ، فإن الأمر ينطوي على العديد من الإشكالات لعل أبرزها طبيعة الفرد المدني و مقوماته المعرفية والثقافية، وهذا الإشكال يحيل بالضرورة على طبيعة المعايير والمقاييس التي تضبط الانتماء إلى قوى المجتمع المدني (34)
أما الإشكال الذي يبدو أكثر استعصاء فهو الذي يتعلق بمكونات المجتمع المدني ومدى مدنيتها، فإذا سلمنا بمقولة ممارسة السياسة في المغرب انطلاقا من مرجعية القبيلة أو من علاقة الشيخ بالمريد، فإن المجتمع المدني لا زال بعيداً عن صيغة تعاقدية واضحة ذات مشروع متكامل قائم على أساس التعاقد المدني .
و تحت وطأة كل هذه الإشكالات لا زال الفرد المغربي بمفهومه ومضمونه يراوح مكانه ولا يغادره بعيداً عن الاكراهات والضرورات المرتبطة بفترات الانتقال، فإلى حدود اللحظة يفتقر هذا المفهوم إلى معنى واضح و إلى صفة معينة تميزه، كل ما هنالك خصائص وملامح عامة أكثر من هوية حضارية منسجمة و مندغمة، و ليست عرقية أو قبلية أو دينية .
أما ما تعلق بالأطراف الثلاثة، الدولة والأحزاب والمجتمع المدني، فلم تتخلص بعد من ما يمكن أن نسميه " بنظرية " التفوق في غياب ثقافة التعاقد والتشارك، فالدولة تنطلق من سيادتها القائمة على العنف المشروع بعيداً عن سلطة وثقافة المؤسسات، وما قد يلحق هذه الإوالية من شطط في التوظيف و الاستعمال، و يطال الأحزاب الهاجس نفسه من خلال سيطرة نزعة التفوق السياسي .
ويظل المجتمع المدني يقدم نفسه باعتباره البديل عن المجتمع السياسي وعن سلطة الدولة وهذا ما يضعف الأحزاب والدولة في الآن ذاته ، فتتبدد المجهودات والطاقات لصالح منطق الأقوى، و في كل ذلك يغيب التسامي عن الانتماء المرجعي لصالح المواطنة التي هي فوق الأصول و المرجعيات .
لم تكن المحاولة التي أقدمنا عليها إلا رغبة في متابعة ظاهرة المجتمع المدني في المغرب بتجلياتها التاريخية، و كنا نستبطن في قرارة أنفسنا أننا لا نحاكم طرفاً على آخر، بقدر ما أننا حاولنا أن نقيم موضوعيا هذه التجربة مع إيماننا العميق بحسن النيات التي ترافق هذا المشروع الطموح في الصيغة المتعارف عليها حاليا ، فالقصد كل القصد المحاولة في البناء انطلاقا من المتابعة و المساءلة النقدية بعيدا عن المحاكمة .
الهوامش:
[1] كلاوس أوفه ، المجتمع المدني و النظام الاجتماعي ، مجلة الثقافة العالمية ، ع 107، 2001، ص 57.[1]
فالح عبد الجبار ،الديمقراطية المستحيلة ....الديمقراطية الممكنة ، مجلة الفكر التقدمي ، ع 12، 1990، ص 34.[16]
محمد أركون ،بعض مهام المثقف العربي اليوم ، ترجمة هاشم صالح ، مجلة الوحدة ، س6، ع 66، 1990، ص 12 . [22]